سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{قُلْ} لهم غِبَّ ما بيّنتَ كيفيةَ جريانِ سنةِ الله عز وجل فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتَهم على أن عذابَهم أمرٌ مقررٌ محتومٌ لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلومِ إيذاناً بكمال دنوِّه وتنزيلاً له منزلةَ إتيانِه حقيقة {أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} الذي تستعجلون به {بَيَاتًا} أي وقتَ بياتٍ واشتغالٍ بالنوم {أَوْ نَهَارًا} أي عند اشتغالِكم بمشاغلكم حسبما عُيِّن لكم من الأجل بمقتضى المشيئةٍ التابعةِ للحكمة كما عيّن لسائر الأممِ المهلَكة، وقوله عز وجل: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جوابٌ للشرط بحذف الفاءِ كما في قولك: إن أتيتُك ماذا تطعمني؟ والمجرمون موضوعٌ موضعَ المضمر لتأكيد الإنكارِ ببيان مباينةِ حالِهم للاستعجال، فإن حقَّ المجرمِ أن يَهلك فزَعاً من إتيان العذابِ فضلاً عن استعجاله، والجملةُ الشرطيةُ متعلقةٌ بأرأيتم، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى أيَّ شيءٍ تستعجلون منه سبحانه والشيءُ لا يمكن استعجالُه بعد إتيانِه، والمرادُ به المبالغةُ في إنكار استعجالِه بإخراجه عن حيز الإمكانِ، وتنزيلُه في الاستحالة منزلةَ استعجالِه بعد إتيانِه بناءً على تنزيل تقرر إتيانِه ودنوِّه منزلةَ إتيانه حقيقةً كما أشير إليه، وهذا الإنكارُ بمنزلة النهي في قوله عز وعلا: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} خلا أن التنزيلَ هناك صريحٌ وهنا ضمنيٌّ كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضّاه حقَّه: أرأيتَ إن أعطيتُك حقَّك فماذا تطلُب مني؟ يريد المبالغةَ في إنكار التقاضي بنظمه في سلك التقاضي بعد الإعطاءِ بناءً على تنزيل تقرّرِه منزلةَ نفسِه.


وقوله عز وجل: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ} إنكارٌ لإيمانهم بنزول العذابِ بعد وقوعِه حقيقةً داخلٌ مع ما قبله من إنكار استعجالِهم به بعد إتيانِه حكماً تحت القولِ المأمورِ به أي أبعد ما وقع العذابُ وحل بكم حقيقةً آمنتم به حين لا ينفعُكم الإيمانُ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرةِ ليُقلعوا عما هم عليه من العناد ويتوجهوا نحوَ التدارُك قبل فوتِ الوقتِ، فتقديمُ الظرفِ للقصر، وقيل: ماذا يستعجل منه متعلِّقٌ بأرأيتم، وجوابُ الشرطِ محذوفً أي تندموا على الاستعجال أو تعرِفوا خطأه، والشرطيةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون الاستخبار، وقيل: الجوابُ قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} الخ، والاستفهاميةُ الأولى اعتراضٌ والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه آمنتم به بعد وقوعِه حين لا ينفعكم الإيمانُ ثم جيء بكلمة التراخي دِلالةً على الاستبعاد، ثم زيد أداةُ الشرطِ دِلالةً على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأولَ كالتمهيد له وجيء {بإذا} مؤكداً {بما} ترشيحاً لمعنى الوقوعِ وزيادةً للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعْهم الإيمانُ البتةَ وقوله تعالى: {آلْآنَ} استئنافٌ من جهته تعالى غيرُ داخل تحت القول الملقن مَسوقٌ لتقرير مضمونِ ما سبق على إرادة القولِ، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوعِ العذاب: آلآن آمنتم به؟ إنكاراً للتأخير وتوبيخاً عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذارِ به ولا للتأمل والتدبرِ في شأنه ولا لشيء آخرَ مما عسى يُعدّ عذراً في التأخير، كان ذلك على طريق التكذيبِ والاستعجالِ به على وجه الاستهزاءِ، وقرئ {آلان} بحذف الهمزةِ وإلقاء حركتِها على اللام وقوله تعالى: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي تكذيباً واستهزاءً، جملةٌ وقعت حالاً من فاعل آمنتم المقدرِ لتشديد التوبيخِ والتقريعِ وزيادةِ التنديمِ والتحسيرِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصلِ دون القصرِ، وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ} الخ، تأكيدٌ للتوبيخ والعتابِ بوعيد العذابِ والعقابِ وهو عطفٌ على ما قدّر قبل آلآن {لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} إن وضعوا الكفرُ والتكذيبُ موضعَ الإيمان والتصديقِ، أو ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب والهلاكِ، ووضعُ الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعارِ بعلّيته لإصابة ما أصابهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} المؤلمَ على الدوام {هَلْ تُجْزَوْنَ} اليوم {إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي التي من جملتها ما مرّ من الاستعجال.


{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي يستخبرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار: {أَحَقٌّ هُوَ} أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر، والجملةُ في موقع النصب بيستنبئونك، وقرئ {أألحقُّ هو}، تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحقَّ؟ {قُلْ} لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة {إِى وَرَبّى} {إي} من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً، ولذلك يوصل بواوه {إِنَّهُ} أي العذابُ الموعودُ {لَحَقُّ} لثابتٌ البتةَ، أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه، وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما في من التقدير المذكور {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً {مَّا فِى الارض} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه {وَأَسَرُّواْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفسٍ، والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع، وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعِ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس، وإيثارُ صيغةِ جمعِ المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه {الندامة} على ما فعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ ما لم يكونوا يحتسبوا فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء، {فلما} بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه، وقيل: أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبيخهم، ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب، وقيل: أسروا الندامةَ أخلصوها لأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها، ففيه تهكمٌ بهم. وقيل: أظهروا الندامةَ من قولهم: أسرَّ الشيء وأشره إذا أظهره حين عيل صبرُه وفنِيَ تجلُّده {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من العباد من الباطل، وعومل أهلُ كل منهما بما يليق به {بالقسط} بالعدل، وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً {وَهُمْ} أي الظالمون {لاَ يُظْلَمُونَ} فيما فعل بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15